يحكى أن إحدى إناث الغربان احتضنت بيضها حتى خرجت الطيور الصغيرة للدنيا، فجاءت كلها بلونها الرمادي المعتاد عدا واحدًا جاء بجسم الغراب وبلون الحمام. وعانى الصغير كثيرًا لأن إخوانه الغربان كانوا يرفضونه للونه الأبيض غير المعتاد، أما الطيور الأخرى كالحمام واليمام فكانوا يرفضونه لجسمه الكبير. وهكذا ظل الغراب الأبيض يشعر بأنه ليس كبقية الطيور وظل وحيدًا ومن هنا جاءت لفظتي "الغربة، الاغتراب".
يحاول معظم الأباء أن يغرسوا في نفوس الأبناء القيم القويمة، وغالبًا ما يصطدم الأبناء في هذا الزمان البديع بكل ما يتعارض مع ما حاول الآباء تنشئتهم عليه، فعندما كنا صغارًا عمل أبواي على تعليمنا استخدام لغة حوار مهذبة، ولغة أكثر احترامًا وتهذيبًا مع الأكبر سنًا، واستعمال عبارات مهذبة من نوعية "ممكن، لو سمحت، من فضلك، حضرتك" وما إلى ذلك. أذكر جيدًا أنني عندما انتقلت إلى مدرستي الثانوية الحكومية – فقد كنت طوال دراستي الابتدائية والإعدادية أو كما يسمونها في السعودية المتوسطة في مدارس خاصة حيث كانت أغلب المعلمات مصريات أو شاميات وكذلك معظم الطالبات – كانت زميلاتي السعوديات يعتبرن طريقتي في التعامل مع المعلمة نوعًا من النفاق، وأن استخدام ألفاظ التأدب نوعًا من التزلف إليها، وأن تفوقي سببه طريقتي في التعامل مع المعلمات، حتى أنني هربًا من هذه الفكرة توقفت عن استخدام هذه العبارات.
وفي إحدى الإجازات التي قضيناها في مصر، كنت أتحدث مع خالتي ذات مرة وخاطبتها بلفظة "أنت" فوجهتني إلى أنني لا يجب أن أتحدث إلى من هم أكبر مني سنًا دون استخدام كلمة "حضرتك". يومها أصبت بالحيرة، كنت في الخامسة عشر من عمري، وأذكر أنني رويت لخالتي لم فعلت هذا، فكان ردها أن كل شعب له تقاليده وأنني يجب أن أتعلم أن أحسن التعامل مع الجميع حتى وإن اعتبر هذا نفاقًا طالما أن نيتي فيه خالصة.
وعندما قرأت مقال الكاتب السعودي، عادت بي الذاكرة إلى هناك حيث ولدت ونشأت، وعاد معها العديد من المواقف التي أود أن أرويها لكم وإن كنت سأطيل قليلاً.
الأول: في مدرستي المتوسطة، وفي وقت انتهاء اليوم الدراسي، كان الطالبات ينتظرن أولياء أمورهن أو السائقين ليصطحبوهن إلى المنزل، وكانت الطالبات السعوديات ينتظرن الشغالة – التي غالبًا ما تكون فلبينية أو هندية أو ماليزية أو إندونيسية – لتحمل عنهن الحقيبة المدرسية. وأذكر موقفًا لا تمحوه الأيام من ذاكرتي بتاتًا، وأكاد أذكره كما لو كان قد حدث من لحظات، كانت الخادمة تحمل لفتاة سعودية حقيبتها وأشياءها - من عائلة الرشيد أكبر عائلة سعودية بعد آل سعود أنفسهم - وللحظة سقط منها أحد الأشياء فلم أجد إلا وكف الفتاة يرتفع ليهوى بصفعة لها دوي على خد الخادمة المسكينة التي بالتأكيد لا تكبر الفتاة في العمر بأقل من عشرة أعوام على الأقل.
الثاني: في الحرم المكي جو لا يمكنك نسيانه، المكان كله نظافة ونظام، العاملون يدأبون على الاهتمام بجميع التفاصيل بشكل يجعلك تريد أن تساعدهم تارة وأن تحافظ بكل كيانك على عملهم تارةً أخرى.
وسط كل هذا حدث موقفان، الأول أسرة مصرية معها تمر وعصير - حيث لا يسمحون إلا بدخول التمر والمشروبات إلى الحرم – تأكل وتشرب ثم تقوم لتترك من خلفها الأكياس والأوراق والزجاجات، والثاني أسرة أمريكية مسلمة يتقيأ طفلها الصغير على الأرض فينظف الأبوان بنفسهما ولا ينتظران العمال أو يتركا المكان بلا مبالاة.
الثالث: في عملي تمزح معي زميلاتي بأنني أهوى مساعدة عاملي النظافة في الشركة فأرتب الكراسي وأجمع الأوراق والأكياس بعد أن أتناول طعامي.
الرابع: السلوك العام للمصريين أثناء القيادة من غضب وشجار وسباب ناهيك عن سلوك سائقي الأوتوباصات والميكروباصات وعربات النقل، اليوم تحديدًا تشاجر معي رجل خلال الطريق وقال "سواقة حريم"، فلم أملك سوى أن أرد "كلك ذوق"
الذوق والإتيكيت وكل ما يعلمونه في الغرب لأبنائهم وكل ما نفتقده هذه الأيام من أخلاقيات إسلامنا الحبيب، فالمصطفى عليه السلام قال منذ ما يربو عن ألفٍ وأربعمائة عام لأبي ذرٍ رضي الله عنه:
قال أبو ذر رضي الله عنه: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم
الخَوَل: الخدم، جمع خائلٍ، بمعنى: الراعي للشيء والمُصلحُ له
وكان هذا عن المماليك العبيد، فما بالنا بالخدم.
وتذكر أنه فضل الله يؤتيه من يشاء
ذكر نفسك دائمًا
هل لك فضل في أنك متعلمًا مثقفًا ولست جاهلاً؟
هل لك فضل في أنك من الطبقة المتوسطة ولست من الطبقة الفقيرة؟
هل لك فضل في نشأتك بين أبويك ولم تنشأ بين أبوين منفصلين؟
هل لك فضل في أي شيء؟
اشكر فضل الله عليك بما يليق به وبك، ولا تنس أن النبي صلى الله وسلم قال لأمنا عائشة: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" والشكر بالمعاملات قبل العبادات.