٢٣‏/١٠‏/٢٠١٢

يا جدتي




يا جدتي..
يا طيف أغنيتي التي..
ضاعت هناك..
يا ذكريات حكاية أضحت على وَشْك الهلاكْ..
ضمي إليك صبية الزمن البعيد..

 سألتني ابنة أخي أندلس "هي فين نينا حفصة؟ راحت فين؟ طيب وسابت جدو؟ بس هو كده هيعيط"، وقتها بحثت عن صور لها كي يتذكرها الصغار لكنني للأسف لم أجد لها سوى صورتان فهي لم تكن تحب التصوير.

 كيف لم أكتب سابقًا عن جدتي؟ سؤال ثاني تدفق إلى ذهني ضمن أسئلة كثيرة وأفكار عديدة ملأت فكري وقلبي في أيام العزاء.

 كيف لم أكتب عنها أو أصف وأحكي عنها رغم مكانتها المتميزة في قلوب أفراد أسرتها الصغيرة؟
ماذا يدفعي للكتابة اليوم؟ هل هو حنيني لها؟

 هل نشعر بقيمة الأشخاص أو الأشياء بعد فقدانها؟ أم أن مكانتها لم تكن تحتاج لحديث أو وصف؟

 في أسرتي، كانت جدتي دومًا هناك، تفتح وعينا وإدراكنا عليها كشمس ساطعة لا تغيب أو قمر منير يضيء غسق الليالي.

 بعد ترملها وهي في العشرينات من عمرها، رعت صغيرها ورضيعتها ستة أعوام شاء بعدها الله أن تفقد ابنتها الصغرى بعد أن بلغت السادسة من عمرها، فظلت أمًا وأبًا لوحيدها الباقي ورافقته في كل أيام حياته بعد أن صار زوجًا وأبًا.

 هي أمنا الثانية التي لم تتركنا أبدًا. كانت ترعانا وتنام بجوارنا وتطعمنا. تكاد تمرض إن مرضنا وتكاد تسقط حزنًا إن غضبنا أو حزننا، وتتلقى على يديها ضربات أبي عندما يغضب منا.

أتذكرون أبيات شوقي التي كنا ندرسها

لي جدَّة ٌ ترأفُ بي
أحنى عليَّ من أبي
وكلُّ شيءٍ سرَّني
تذهب فيه مَذهبي
إن غضبَ الأهلُ عليَّ
كلُّهم لم تغضبِ
يمشى أَبي يوماً إليَّ
مشية َ المؤدِّبِ
غضبانَ قد هدَّدَ بالضرْب
وإن لم يَضرِبِ
فلم أَجِد لي منهُ
غيرَ جَدَّتي من مَهرَبِ

 مع الأيام، تفتح وعيي وإدراكي عليها. لم أكن صديقة مقربة لها، لكن العلاقة بيننا توطدت قليلاً في المرحلة الثانوية. كنت وقتها أمكث كثيرًا في المنزل في إجازات مطولة للاستذكار، فكنا نتناول إفطارنا معًا ونشاهد مسلسل الظهيرة معًا. وكنت دومًا أطلب منها ألا تخبر أبي بذلك، وكانت تفي بالوعد شريطة أن أذاكر جيدًا.

 لم أجرب دموع الفراق إلا عندما افترقت عنها وعن أبوي للمرة الأولى، ولمدة عشرة أعوام لم أكن أرها إلا شهرًا ونصف الشهر كل عام، لكنها كانت حاضرة دومًا بصوتها في المكالمات الهاتفية وفي اسمها على لساني وفي خطاباتي لها.

 منذ ستة أعوام عادت لوطنها وقد امتد بها العمر كثيرًا وضعفت كثيرًا، لكنها ظلت في صحة تسمح لها بالحركة، لكن الله قدر لها أن تصاب بكسر في عامها الأخير. واستحالت بعدها إلى طفلة تحتاج إلينا وإلى رعايتنا. تتألم فتتألم روحنا، تطلب فنسرع بتلبية طلباتها. كانت دومًا شاكرة ممتنة. كانت تخجل من الجميع ولا تأمن أو ترتاح لأن يخدمها غيرنا أنا وشقيقتي الصغرى وإن كانت شقيقتي أكثر قربًا منها عني، وأرفق بها مني.

 تدعو لنا بصوت متهدج يمس القلب والروح إذا ما ابتسمنا لها أو قدمنا لها ما تطلبه أو ساعدناها على الوضوء أو طبعنا قبلة محبة على رأسها أو يديها قبل النوم.

 طالما رددت أمنياتها بحياة ابنتها الطفلة لتكون بجانبها في كبرها وعند وفاتها، فكنا دومًا حولها، فهل شعرت بذلك يا جدتي؟ هل أوفيناك حقك؟

 أحاول جاهدة أن أتذكر اليوم السابق لمرضها الأخير، وأتساءل هل كنت شفوقة عليها؟ هل أغضبتها بشيء؟

 لكنني لا أتذكر ذلك اليوم للأسف

 أتذكر فقط صباح الثلاثاء التاسع من أكتوبر عندما أصابتها رجفة مفاجئة وزاغت نظراتها بيني وبين شقيقتي. وقتها فقط شعرت وهي بين أحضاني أنها النهاية. لكن الله قدر أن يمتد عمرها لما بعد ذلك بخمسة أيام ونصف لتلقى ربها ظهر الأحد 14 أكتوبر بين يدي والدتي التي أعتبرتها طيلة عمر زواجها ابنتها لا زوجة ابنها، فكانتا نعم الأم والابنة. خرجت أنفاسها هادئة بعد ستة أيام قضتها طريحة الفراش لا تشعر بمن حولها وقد من الله عليها بأن لم يرها معاناة وحيدها.

 في وقت غياب حضورها عنا وعدم مبادلتنا الكلام، ظل لسانها رطبًا بذكر ربها في ذكر ريفي عفوي بسيط يتردد ما بين "اقبل مني يا رب" و"إنت شفوق ورحيم علي يا رب"، أما في يوميها الأخيرين عندما دخلت في ما يشبه الغيبوبة، كان أصابع كفها الأيمن يتحرك في ما يشبه التسبيح وسبابتها في ما يشبه الشهادة.

 عمرت جدتي طويلاً، وما أظن أن وفاتها فاجأتنا لكن وقع الأمر قاسٍ على الرغم من ذلك. كل ما يخصها أصبح مؤلمًا؛ الدخول إلى غرفتها الفارغة مؤلم، رؤية ملابسها ورائحتها التي ما زالت فيها مؤلمة، حتى بقايا الحلوى التي تربعت في درجها دون أن يُقدر لصاحبتها أن تأكلها بات مؤلمًا.

كل شيء يذكرني بها

 في غسلها بدا أن العاصفة قد هدأت والآلام قد سكنت والروح قد صعدت وبدا وجهها الحبيب منيرًا، وتذكرت كلماتها عن ابنتها الفقيدة، فملت على وجهها الحبيب أقبله وقلت: أنا هنا معك يا جدتي. أنا وأمي ابنتاك اللتان لم تنجبيهما. أما شقيقتي الصغرى فما كانت لتحتمل ذلك.

 مرت عليّ لحظات قاسية ما بين ليلة وفاتها التي عانت فيها من سكرات الموت، وما بين لحظة وفاتها، وما بين وقت غسلها. أما أكثر اللحظات وحشة، كانت لحظة أن عاد الرجال من دفنها فتمثلتها وحيدة بعد أن غادر الأبناء والأحفاد والأقارب وهي التي كانت تخاف أن نتركها وحدها ليلاً، بينما كان دفنها ليلاً. عاد الجميع وبدأ العزاء وقام الناس يشربون ويقدمون بعض الطعام للمسافرين، وهي هناك يبدأ الملكان في سؤالها فدعوت لها بالتثبيت. في بيت القرية، بدت الأريكة التي كانت تجلس عليها أو ترقد عليها فارغة، ومكان صلاتها موحشًا، والفرندة المتسعة التي كان شقيقي الأصغر يعدو هاربًا منها شاهدة على جدة كانت مثالاً لكل طيب. أما لحظة أن خرجنا من منزل القرية عائدين للقاهرة التقت عيناي بعيني شقيقتي فبكينا، لأننا لحظتها شعرنا أننا نتركها تمامًا، نتركها وحيدة للمرة الأولى. أما في بيت القاهرة، فكل شيء يذكرني بها بقسوة، سريرها، ملابسها، أريكتها، كرسي وضوئها، كرسي صلاتها، كل شيء.

 بعد وفاتها بيومين مضيت أشتري لأمي بضع أشياء للمنزل، وعندما عدت أدرت وجهي بحركة تلقائية نحو فراشها لأقول لها كلمتي المعتادة "أنا جيت يا نينا" فارتد بصري خائبًا عن أريكة فارغة وبقايا وجود لم يتلاشى بعد. أما أمس فأمسكت صديقتي بنوع من الشوكولا قائلة أنها تحب هذا النوع، فدمعت عيناي لأنها كانت نوعها المفضل.

 يقولون عني أنني الأكثر جلدًا ويطالبني الجميع بأن أكون أكثر تماسكًا من أجل أبي وأمي وأختي، وأظن أنني من كثرة ما حاولت على مدار عمري أن أكون أكثر جلدًا أصبحت دموعي أحيانًا عصية، وكثيرًا ما أحاول البكاء فلا أستطيع. لكنني أشعر أنني أبكيك بقلبي يا جدتي وسأظل حتى لو صرت جدة.

الأضحى قادم هذا العام بلا طعم ولا لون وأنت غائبة ووحيدك مريض وقلوبنا متألمة

في كل زاوية لك ذكرى هنا
الدار تبكيك مع الأحياء
يأيها الأضحى توقف مرة
إني طلبت فهلا سمعت رجائي
سنؤجل الأعياد عامًا كاملاً
من أجل نجمة تسمو بغير سمائي

٠٥‏/١٠‏/٢٠١٢

بعد الموقعة



بعد الموقعة
فيلم انتظرته منذ أن سمعت عنه، لأنني كنت أريد أن أرى البعد الآخر، أفهم الجانب الآخر، أشاهد الزاوية الأخرى.
يبدأ الفيلم في إطار أحداث ما بعد مارس 2011 وقت الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ويبدأ بحوار بين ناشطين حقوقين حول أحداث تحرش بفتيات وما يمكن أن تتغير فيه مصر من هذا الإطار في يوم المرأة العالمي.
بعدها وبمصادفة بحتة، تذهب بطلة الفيلم ريم "منة شلبي" مع صديقة طبيبة بيطرية إلى نزلة السمان في إطار مساعدة الصديقة للخيالة في العناية بخيولهم وجمالهم. وتذهب وكلها تحفز لأولئك الذين أسموهم بلطجية ومن هاجموا الثورة والثوار.
هناك تشاهد محمود البيطار "باسم سمرة" وهو يعامل أسوأ معاملة من الأصدقاء ومن موظفي الجمعية التي تقدم لهم العلف بسبب مشاركته في الهجوم على الميدان يوم موقعة الجمل لتؤلمك كلمة الخيال وهو يناشد الطبيب فيقول "خد الحصان بس أكله"، فهو ذلك الشهير الذي ظهر في كل الصور والفيديوهات عن قرب وهو يتلقى الضربات واللكمات والصفعات القاسية الشديدة المتلاحقة.
لسبب غير معروف، تقدم على مساعدته وتكتشف أنه زوج وأب، وتتوالى الأحداث في إطار متسارع مفهوم حينًا وغير مفهوم أحيانًا لتنتهي بمساعدة كثير من الناشطين السياسيين والحقوقين لأهالي نزلة السمان.
مشاهد أعجبتني
المشهد الأول:
 الشجار بين الأب وابنه عندما اكتشف الأب أن ابنه لا يريد الذهاب للمدرسة شجار عنيف وضرب من الأب لابنه، مشهد عنيف يُخفي وراءه حبًا كبيرًا من الأب لابنه الذي يرغب في تعليمه حتى لا يلقى مصيره، وحبًا كبيرًا من الابن لأبيه وهو يرفض أن يصارحه بأن سبب عزوفه عن الذهاب للمدرسة تنكيل زملاؤه به وتجريحهم في شخص والده واتهامهم بأنه "مش راجل".
المشهد الثاني:
 مشهد النقاش بين ريم ومحمود والمصارحة بكل ما في البلد والمكان والمنطقة من مآسي لترى كم تخفي مصر في جوفها من أشقياء تعساء متعبون. مأساة أهالي نزلة السمان لم تبدأ بعد موقعة الجمل، بل هي قائمة منذ أن بنت هيئة الآثار السور الكبير الذي خنقهم في إطار إنشائها لمبنى الصوت والضوء هناك، فحجبوا عنهم الأهرام وأبا الهول فكأنهم حجبوا عنهم الماء والهواء. وتبدو الرسومات التي خطتها أيديهم ظاهرة على السور انعكاسًا لإصرارهم على البقاء في المنطقة.
المشهد الثالث:

 مشهد النقاش بين ريم وزوجها في إطار علاقة عجيبة كلها ضعف وعدم فهم عندما يتهم زوجها أهل نزلة السمان بأنهم "هلاسين" فتقول له ريم "وإنت مش بتهلس؟!". أفراد هلاسين حشاشين لا قيم لهم ولا مبادئ الفارق الوحيد بينهم أن أولئك أبناء طبقة راقية متعلمة، وأن أولئك أبناء طبقة كادحة.
المشهد الرابع:
في الميدان، عندما تعرف هالة إحدى الناشطات أن محمد هو من أهالي نزلة السمان
-          "يا نهارك إسود! مش إنت قلت إنك من الهرم؟!"
-          "وتفرق إيه؟!"
-          "لا تفرق دي غير دي"
الحوار وإن كان في إطار المزاح لكنه كان انعكاسًا لنظريات التعميم والتصنيف التي تعشش في عقولنا وقلوبنا وتمتد جذورها عميقًا.
في أحداث ماسبيرو، تبدو النهاية عندما يذهب محمود لأول مرة مع ريم ويهتف من أجل مصر، ويتلقى طلقة في جنبه لينتهي الفيلم في عربة إسعاف في مشهد أشبه بنهاية مفتوحة تتردد فيها أنفاسه مسموعة مع مشهد صعوده للهرم الذي كان حديث الخيالة في نزلة السمان.

تقييمي للفيلم من حيث إعجابي به أن دون المستوى المتوقع. من وجهة نظري بوصفي مجرد مشاهدة، أعطيه 2 من 5. لم يُعجبني الفيلم في الحقيقة، أو أنني كنت أنتظر أن أشاهدة Master piece لكنني شاهدت فيلمًا غير موضوعي على كل النواحي تقريبًا.
جاءت البداية مع مشهد فج للغاية، جعل صديقتي تشهق بجواري في السينما، والأسوأ أنه كان مشهدًا ليس له أي معنى أو توظيف درامي على الإطلاق.
شخصية ريم شخصية باهتة غير قوية لا تستطيع التعاطف معها أو الإيمان بها على الرغم من تقديرك لما تفعله لكنك في الوقت نفسه لست متأكدًا عن الدافع من ورائه.

بالإضافة إلى أن يسري نصر الله قدم صورة أحادية للثورة والثوار، قدم فقط ثوار الطبقة الراقية الذين لا يتورعون عن إقامة العلاقات وشرب البيرة وتدخين الحشيش والسخرية من غيرهم.

لم أر ثوار الطبقة المتوسطة مسلمين ومسيحيين متدينين وغير متدينين

لم أر ثوار الطبقة الكادحة


لم أر ثوار يجمعون بين المبادئ والقيم التي رأيناها في بعضهم وبصدق
شخصية محمود البيطار شخصية كادحة مسكينة مضللة وكان باسم سمرة جيدًا في أدائها

أجمل شخصية في الفيلم هي شخصية فاطمة أو فاطنة كما تنطقها صاحبتها "ناهد السباعي" فهي شخصية شديدة العمق كما أن الأداء كان رائعًا. قد يبدو الأمر غير مفهوم في تفسير العلاقة بينها وبين ريم خاصة عندما يكتشف المشاهد أنها تعلم جيدًا ما بينها وبين زوجها، لكنني بعد تفكر وجدت أنها حكمة شديدة وحب كبير منها. تفهم كامل أنها لحظة ضعف غبية من زوجها، وتسامح كبير وزائد منها، وأمومة رائعة على ولديها.

وعلى الرغم من ضعفها الشديد تجاه زوجها الذي لا يبرره أنها أعلى منه تعليمًا وأكثر منه حكمة، فقد كانت هي الشخصية الوحيدة التي تنظر للغد وتسعى إلى التغيير.
 

الطفلان كانا رائعين لأنهما طبيعان للغاية وأعتقد أنهما من نزلة السمان بالفعل، خاصة عبد الله الابن الأكبر، وحبهما للخيل الذي يتجلى في مشهد تسللهما ليلاً ليمتطيا حصان والدهما ويختالان به تحت أنظار والدهما المتربصة الباكية.
الفيلم ليس سيئًا لكنه لا يرقى لما كنت أنتظره